قراءات نقدية

قراءات نقدية 


قراءة في / عرس وردة لـ سليمى السرايري




بداية لنتعرف على خلفية سريعة للكاتبة و هي خلفية ستكون لها أثر في استقراء النص بشكل أوضح
الكاتبة فنانة تشكيلية .. قالت الرسم مخاض جميل لقصيدة تُرسم بالريشة...
الرسم صور..
افكــــــــار ..
ومشاعر يصقلها الفنان بدقّة متناهية ..
إذن هي ليست كاتبة عادية ,, بل فنانة تكتب كما ترسم لتترجم مشاعرها المرهفة في صورة كلمات و صور
لذا فقصتها ستكون مختلفة ,, قصة بإحساس الأنثى الشاعرة الفنانة الكاتبة ,, فلنا أن نتوقع لوحة بريشة شاعرة و بأسلوب فنانة


نعود للقصة
لنبدأ بالعنوان ( عرس وردة 
و هو المدخل الأساسي و المفتاح الذي سيفتح لنا دلالية النص 
و العرس كما هو معروف يعبر عن الفرح و الكرنفال .. و الوردة تجعلنا نتسائل هل هي وردة حقيقية أم مجاز لشىء آخر ؟
هذا هو ما سيفسره لنا النص لذا علينا أن نولج إليه سريعا ثم نعود للعنوان مرة أخرى لنحاول أن نفهم دلالته الرمزية 



كان السكون يعمّ المكان وقد خرج البستان من صمته المعتاد .
تجمّل وارتدى حلّته الخضراء فاصطفت الأشجار الواحدة تلو الأخرى احتراما له


هنا أوحت لنا الكاتبة بالجو الذي بدأت منه قصتها حيث الطبيعة التي يلفها السكون و الهدوء .. كما صمت البستان الذي يجعلنا نترقب ما وراءه
هذا البستان .. الذي كان يعتني بها و يفيض عليها بحبه حتى غدت زهرة يانعة فواحة لذا كان نظرها دائما متجها إليه .. ترى انفعالاته .. تشعر به .. في سكونه و كلامه .. تراقبه باستمرار و هي تستمتع بذلك .. و عندما همّ بالكلام شعرت أن الدنيا أصبحت مختلفة .. إذ اصطفت الأشجار احتراما له .. هذا هو في نظرها .. انسان لا مثيل له في روعته ... عندما يتكلم أو يتجمّل تزهو الدنيا و تخضّر و تقف إحتراما له كما تحترمه هي
فهكذا هو المحب .. نظرته دائما مختلفة و خاصة لمن يحبه
و يظن أن كل الدنيا تشاركه هذه النظرة 



حطّت العصافير الصغيرة الملوّنة على كف المساء
وهرولت الأسماك من أحواضها حتى لا يفوتها عرس الوردة هذه الليلة 


تنقلنا الكاتبة لمشد مكمل للمشهد الأول 
هناك شيئا ما سيحدث .. و كل الطبيعة استعدت له .. ربما هذا من وجهة نظر الوردة .. فهي التي تستعد لحدث ما أو تنتظر حدث ما ... لهذا رأت أن الدنيا كلها ستشهد هذا الحدث معها و كأنهم مدعوون إلى عرس ( فالعرس من المهرجانات التي يحضرها الجميع ) و هنا تشعر الوردة أن المخلوقات حولها بالتأكيد ستشهد هذا الحدث أو العرس و ستحضره حتما .. كالعصافير و الأسماك الرقيقة 


قالت الوردة
أنا من أحيا أعراسه ومن وهب اللّؤلؤ لعينيه
في حمرتي، ماءٌ و ترانيمُ وقصائدُ تفيض أقحوانا 


و قبل هذا الحدث الذي تستعد له الوردة و تنتظره رأت أن تضع الحاضرين أمام مقدمة عليهم أن يعرفوها بداية .. أرادت أن تفصح عن مشاعرها و بما يختلج في قلبها .. لتوحي لهم أن هذا الحدث المنتظر يخص أحدا ما أحبته بعمق ..فقالت لهم .. أنها جعلت حياته أفراحا بما قدمته له من دعم و مساندة .. جعلته يرى الدنيا بشكل أجمل من خلال تزيين عينيه برؤيتها و رؤية جمالها الآخاذ و وصف حبها له بقصائد تفيض أقحوانا و عطرا .. هذا ما قدمته له من روعة 
كانت هذه مقدمة ضرورية لتجعلهم يعيشون قصتها من البداية لكي يستعدوا لشىء كبير .. أو لنتيجة غير متوقعة 


أنا أميرة العبير خذلتني الأقنعة الملوّنة فمات الربيع على جذعي.
كيف أرقص الآن على سلّم العشاق؟
و أعبر بضفافي إلى جهة الشمس؟ 


و كما كان متوقعا هناك شىء ما حدث آلمها من البستان .. بعد كل ما قدمته له .. هي الوردة التي لا تتنفس معه إلا عبيرا .. و لا تقدم له إلا طيّبا .. فكانت صدمتها به كبيرة حين رأت أنه كان يرتدي قناع لخداعها و أنه غير صادق معها .. فتشعر من فجيعتها .. أن الربيع الذي يحيي الطبيعة كلها و يلبسها ثوب الجمال .. قد مات على جذعها قبل أن يقترب من أوراقها .. بسبب أحزانها الرهيبة و صدمتها العنيفة 
فكيف لها بعد هذه الخديعة الكبرى أن تعيش الفرح و ترقص كعاشقة 
أن تتجه نحو الشمس بنظرها و قد لفها الظلام من كل ناحية فلا ترى سوى ربيع ميت و لا تشعر سوى بظلام دامس يحجب عنها رؤية كل ما هو جميل
و هذا تعبير مجازي جميل
فالحزن حين يعشش في القلب يمنعنا من الإحساس بالحياة حولنا 


ضحك البستان و أغلق على نفسه نافذة الهواء الوحيدة التي تتنفس منها الوردةُ. كان يعرف أن الموت سيغمرها و أنّها ستنتهي تحت أقدام الصدمة.


كاذبة هي مرايا الأمكنة التي مازالتْ تمنح للذاكرة شذى غريبا قريبا إلى القلب.
تلك المرايا ، مازالتْ تدوّن" أوراقـًا مسافرةً" في سجلّ العابرين


و بدلا من أن يترفق بها حبيبها سخر منها و بدلا من أن ينقذها من حالتها و حزنها أغلق عنها كل منافذ الحياة إليه
إذ أنها كانت تحبه بعمق حتى أنها كانت تتنفس من خلاله !
و هو يعلم يقينا أنها بحساسيتها المفرطة و مشاعرها المرهفة ستحزن حتى الموت حين تعلم حقيقته و أنها كانت ألعوبة في يديه و بما أن اللعبة قد انتهت لذا كان عليه أن يسد ّكل الطرق إليه ليبعدها عنه 


قال البستان وقد تقاطر حسنا وصوتا من برجه العالي مزهوّا بصولاته وجولاته فيعالم رقميّ :
متى تدركين أيّتها الفوّاحة أنّك مثل آلاف الأزهار المنتشرة على الشبكة، الذابلة واليانعة ، الحقيقيّة والمزيّفة ، الوليدة والعجوز ؟
و أنّك محطّة أقف عندها قليلا ثم أتركها ورائي غير عابئ بقطرات الندى المتساقطة من جسمك الرقيق؟
متى تدركين أيّتها المتوهّجة أن ألوانك لا تعنيني فهي صهاريج بلا ماء؟
اغربي عنّا أيّتها الوردة الجميلة، كفّي عن العطاء والسعادة التي تهبينها للجميع فنحن لا نحتاج كلّ هذا، فالعالم الرقميّ لوحةٌ مزيّفةٌ. )


هنا انتقلت بنا الكاتبة بالقصة من عالم طبيعي به زهور و بستان و عصافير إلى عالم رقمي لتزداد القصة وضوحا في أذهان المتلقي 
فنرى أن تلك القصة قد حدثت من خلال هذه الشبكة العنكوبتية 
تستطرد الكاتبة بنفس الإحساس المؤلم
أن هذا البستان أو الحبيب ما هو إلا متكبر مغرور يعبث و يتلاعب بالقلوب و المشاعر في زهو و خيلاء إذ يقول لها باستخفاف بمشاعرها و حزنها :
أن مثلها مثل غيرها في نظره .. لا فرق بينها و بين آلاف الأزهار المنتشرات على الشبكة المختلفات في الشكل و اللون و العمر .. لذا فأنه يستمتع بها ( الوردة ) و بشذاها ثم يتركها غير مبال بدموعها و حزنها 
ثم يستدرك باستهجان لها .. حد الإهانة .. إذ يراها شىء بلا حياة ( صهريج بلا ماء ) هذا لأنها تتعامل معه من خلال شبكة عنكبوتية و ليس بشكل طبيعي 
ثم يزاد توبيخه لها بأن هذا العالم التي تتفانى في العطاء فيه عالم لا يستحق , عالم بلا حياة , عالم وهمي مزيف و العطاء فيه شىء بلا معنى و ليس له أهميه عند أحد 


لملمت الوردة بعض عبيرها المتساقط حولها وبمساواة لتعبّر عن غضبها وصعدت لأوّل مرّة منبر البستان بعد صمت طويل في ثانية أو ثانيتين. 


انقلب الطقس وزمجر البستان وأرعد واعتبرها جريمة لا تغتفر فداس على رقّة الوردةِ غير مبال بصراخ أوراقها الشفافة ألما وحزنا.


اعتصر رحيقها بيده الغليظة بلا رحمة وتناسى في خضمّ غضبه كم توّجته تلك الوردةُ بالمحبّة والحنان والاحتواء... كم عانت من الغربان وسواد قلوبها من أجل أن يظلّ اسم البستان يرفرف عاليا


بعد أن سمعت الوردة هذا الكلام الجارح من البستان الذي أحبته و منحته السعادة تماسكت و أرادت أن تلقنه درسا و أنها مثله تماما و تستطيع جرحه كما جرحها و قد فعلت ( صعدت لأول مرة منبر البستان ) إذ أنها بدّلت الوضع و أخذت مكانه لأول مرة بعد أن كانت تعيش دور الحبيبة المتفانية المجروحة .
و هنا كان غضب البستان عارما .. إذا كيف لها أن تساوي نفسها معه و تفعل مثله و هو وحده من يحق له أن يفعل كل هذا أما هي فليس من حقها أن تفعل المثل 
و اعتبر فعلتها جريمة لا تغتفر ,, فلم يكتفي بتأنيبها و تركها لدموعها بل سحقها بعنف غير مبال بصرخاتها المذبوحة .. و هو الحبيب ناكر الجميل .. الذي جرح من أهدته عبيرها و احتوتها بحبها و إخلاصها و عانت من كلام الآخرين عنها و مع ذلك تحملت الكثير من أجله ليظل أسمه كبيرا و مكانته شامخة لدى الجميع 


كانت تحتفظ بنبراته في كيس ملوّن تفوح منه رائحة زكيّة كلّما حرّكته قليلا ، تعبق الأرجاء وتعرّش قصائده فوق أعشاش الطيور فتضيء أعمدة الشبكة ويحطّ الحمام على كفّيها.
لم ترض أن يحتلّ الغرباء باحة قصره وكان لابدّ من أغانيه كي يفوح ليمونا و أكليلا و زعترا بريّا .
كثيرا ما كانت تهمس في غيابه:
هذه دموعي سنابل سوف تكبر في المدى و هذه لهفتي عصافير ملوّنة تنتظرك عند اللقاء


و رغم كل ما فعله هذا الحبيب الناكر للجميل ظلت الوردة تحبه و احتفظت بذكراه في ذاكرتها الملونة العطرة .. في الركن الجميل من قلبها و حياتها .. و كلما شعرت بالحاجة إليه ركنت إلى نفسها تستحضره و تكتب له قصائدها الفياضة بالحب في هذا العالم الرقمي فقط لتشعر بالسعادة لأنها تكتب له .. و له فقط 
ظلت مخلصة له .. فهي ترى أنها ملكه و غيره غرباء عنها لا علاقة لها بهم و مهما حاولوا التقرب إليها .. فكلماته فقط هي ما تسكنها هي ما يفوح منها الشذا و كلمات غيره .. لا معنى لها و لا حتى وجود 
و كانت تهمس لنفسها في غيابه :
أن دموعها التي اسقطتها بسبب جرحه لها و حبها له .. لن تجف بل ستروي مشاعرها لتكون أكثرة قوة و أكثر جمالا كما السنابل 
و شوقها إليه كالعصافير التي ستظل حية مدى حياتها .. ترفرف في قوة حتى موعد اللقاء
فالأمل لديها باق .. في أنه يوما ما سيعود لها في شغف العاشق 
و هي ستظل تنتظره بكل أشواقها و حنينها الذي لن يقل أو يموت ببعده عنها
و في هذه قمة الوفاء و الإخلاص في الحب 


غير أن البستان، صعد عاليا تاركا الوردة تطوي وحدها حقائب الجمال المحتضر، تتنفّس بصعوبة و النافذة تزداد انغلاقا


و رغم كل ما قالته الوردة و كل ما قدمته من وعود ووفاء لحبيبها المتعالي الجاحد 
تركها غير مبال بها 
تركها تستحضر و تعيش ذكرياتها الجميلة معه 
و هي تموت و تموت من ابتعاده
إذ أنه أغلق تلك النافذة التي كانت تتنفسه منها
فبعده لا حياة لها 
بعده الموت لها 
و لكل تلك الذكريات الجميلة التي عاشتها معه



و عند العودة للعنوان نرى أن الكاتبة تقصد بالعرس هذا المهرجان الذي دعت إليه مخلوقات الطبيعة لكي يشاركوها هذا الحدث الهام في حياتها .. مشاعرها المذبوحة .. جراحها .. افراحها و حزنها .. ابتساماتها و دموعها .. فلم يكن هذا العرس إلا هذا التجمّع الذي حكت فيه قصتها الحزينة ليشهدوا كيف كان حبها و كيف كانت نهايتها .. هو المحفل الذي سيشهد موتها الجميل
.. فهو كالعرس بالنسبة لها .. لأنه موت من أجل الحب .



القصة زاخرة بالمشاعر القوية
قصة حب ووفاء
يقابها خديعة و جحود 
نسجتها سليمى بإحساسها المرهف و بريشتها الملونة لتجعلنا نعيشها بمشاعرنا .. و نستشعرها بقلوبنا 
مشاهد تموج بانفاعلات مختلفة 
لتهبط و ترتفع نبضاتنا مع كل مشهد
كما أن هذا الإنتقال من الطبيعة للعالم الرقمي جعلنا نرى القصة بشكل واقعي 
ليمتزج الخيال بالحقيقة في تنقل رائع و مدهش
جعلنا نعيش القصة بكل مشاعرنا و نستشعر صدقها و روعتها
كما أن تلك التصويرات البديعة لكاتبة شاعرة فنانة أعطت للقصة جمالا من نوع خاص .. كأننا نرى قصيدة في صورة قصة .. و قصة في شكل لوحة ملونة .. فارتقت بنا إلى آفاق أوسع من الدهشة و الجمال

***********************************************

قراءة في نص ( ملك الملوك ) لفوزي سليم بيترو




ملك الملوك

جميلٌ عذابُه
مهيبٌ جسدُه المعلَّقُ فوق خشبةٍ
إن تلكَ الجراحَ التي في جبينه
عارٌ على ورود شجرة الدفلى

لمحتُ رؤيا
كانت الأحبارُ وتلك السخريةُ
يشحذونَ السكاكينَ
من أجل حمامةٍ تاهت عن فُلك نوح

توالت الرؤى
غدا السراب يقينا
اليباب محطة للعابرين

والشيخُ ترهقه الرزايا
رفع إلى السماء
نزفاً فوق طبقِ الفضة
أنشد اليراعُ
اكتستِ الأرضُ النجيع

طوبى للذين يشهدونَ :
أن الأرض تدور
فهم يملكون نصفَهَا المضيء

رأيت ما يراهُ النائمون
كيف يُبتلعُ اليقين ؟
كيف متنا سنين خلت ؟
لماذا يحرسُون الغابات ؟
كيف يصنعون من أغصان أشجارها
صلبانا توابيتَا نبابيتا وخوازيق ؟

ليتني ما أنكرتُه
قبل صِيَاح الديك
سرت معه في الطريق إلى الجلجلة
جفَّفتُ عرقه مسحت دمعته

نظرت إلى وجهي في المرآة
شاهدت يهوذا
مع أنني لم أخنه
لم أبعه مقابل الثلاثين من الفضة

هيّا أرقصي سالومي
لم يعد هناك وقتً للسجودِ
للصلاة
بيلاطس غسل يديه بالماء
وقيافا هتف :
دمه علينا وعلى أبنائنا

شفيفٌ عذابه
مهيبٌ جسده المعلقُ فوق الصليب
لو يدرون أنه قد هزم الموتَ بوفاته
لما صلبوه ولا قتلوه


القراءة

ملك الملوك
لنبدأ بالعنوان ( ملك الملوك )
و هو المدخل الأساسي و المفتاح الذي سيفتح لنا دلالية النص
العنوان ينبىء بأننا سنكون أمام حدث أو شيئا ما يتعلق بملك.. يراه المبدع بأنه ملك الملوك .. إذن هو ليس ملك عادي أو عابر في التاريخ أو في ذهن المبدع .. بل هو ملك دانت له الممالك و خضع له ملوك الدنيا .. هكذا هو تصورنا بداية و من واقع العنوان .. لكن ربما يكون رمزا دلاليا لشىء آخر .. سنرى


جميلٌ عذابُه
مهيبٌ جسدُه المعلَّقُ فوق خشبةٍ
إن تلكَ الجراحَ التي في جبينه
عارٌ على ورود شجرة الدفلى


يبدأ المبدع نصه بوصف للحظة معينة في تاريخ هذا الملك .. ربما هي اللحظة الأهم في حياة الملك أو المبدع أو الإنسانية بشكل عام
فهو لم يعرفنا عليه من خلال أسمه أو أعماله أو من هو بالظبط .. بل ترك الحدث يتكلم عنه
و بهذا هو اعتبر العنوان بداية للنص و ليس منفصلا عنه إذ أنه استدرك بوصف لهذا الذي دل عليه العنوان ( ملك الملوك ) بأن ( جميل عذابه ) أو ربما أراد منا أن نكتشف من سياق النص لم هو ملك الملوك و لم هو استحق هذا اللقب ؟
و لكن كيف يكون العذاب جميلا ؟ إلا إذا كان عذابا من أجل قضية أو مبدأ أو لإعلاء كلمة حق فهو عذاب نبيل يرتقي بالنفس إلي آفاق من الشفافية والسمو و الراحة البشرية رغم قسوته و آلامه
يصفه و كأنه يراه بعينيه .. معلق فوق خشبة .. قد يكون مصلوبا عليها ثم أن جبينه عليها جراح .. و لا تكون هناك جراح على الجبين إلا إذا كان هناك شيئا عُلق بها ذا نتوءات حادة كطوق مثلا .. لأن الجراح كانت في الجبين و ليس على كل الوجه .. له شخصية مهيبة و هي ذات الشخصية التي تكون للملوك و العظماء و الأنبياء .. الصورة بدأت تتضح بعد ضبابية العنوان و بدأنا نفهم من هو الذي يتحدث عنه
.. ثم يعود و يقرر في لوم و عتاب أن تلك الجراح عار على ورود شجرة الدفلي .. و هي تلك التي ذكرها السيد المسيح حين قال إ(شجرة الدفلى هي شجرة ورقها يشبه الورد وطعامها قاتل ومر )

لمحتُ رؤيا
كانت الأحبارُ وتلك السخريةُ
يشحذونَ السكاكينَ
من أجل حمامةٍ تاهت عن فُلك نوح


يقول المبدع أنه يرى رؤيا .. و الرؤيا من الحلم ... ربما هو لم يراها بحلم بل رآها بعين خياله تلك التي تجسّد الأحداث أمامه فيشعر بها حية صادقة.. و يستكمل بقية الحدث الذي يرويه لنا حتى تتضح الصورة أمامنا تماما من خلال رؤياه .. فيروي أنه يرى أحبار اليهود و سخريتهم حول الجسد المعلق .. يستعدون للقتل ( يشحذون السكاكين ) من أجل ( حمامة تاهت عن فلك نوح ) ربما أراد بالحمامة رسول السلام الذي كان متواجدا منذ الأزل .. منذ كانت الحمامة رمزا للسلام .. و كأنهم سيقتلون رسول السلام في العالم المشحون بالغضب و الصراع

توالت الرؤى
غدا السراب يقينا
اليباب محطة للعابرين

تتوالى الأحداث تباعا في مخيلة المبدع .. كالرؤى هي أمامه صادقة كأنه يراها بأم عينيه
رأى كل شىء انتهى بعد هذه الفجيعة الصادمة .. ليصبح السراب واقعا .. لاشىء .. لا حقيقة .. بل خواء و سراب و أجواء فارغة من مضمونها هي المهينة على العالم

والشيخُ ترهقه الرزايا
رفع إلى السماء
نزفاً فوق طبقِ الفضة
أنشد اليراعُ
اكتستِ الأرضُ النجيع 


( و ) حرف استدراك للرؤى التي يحكي عنها و كأنها واقعة أمامه
أظن المبدع في هذا المقطع يتحدث عن يوحنا المعمدان .. إذ يصفه بالشيخ و ليس ملك الملوك كالسيد المسيح عليه السلام
يتحدث عن ألمه الشديد من خطايا الآخرين حتى أنه مات و رأسه ينزف على طبق من فضة جزاء دفاعه عن الحق و معارضته الباطل و ما يخالف الشريعة الإلهية .. ففاض الخوف و اليأس مما حدث من فجائع حتى أغرق الأرض و كساها هلعا و يبابا

طوبى للذين يشهدونَ :
أن الأرض تدور
فهم يملكون نصفَهَا المضيء

كانت نتيجة رؤياه أنه آمن أن العاقبة للمتقين .. الذين يشهدون أن الأيام تتداول كما الأرض التي تدور .. و لا شىء يبقى على حاله .. و أن الظلم سينتهي ليحل محله العدل .. هم فقط من يرون العالم الفاني على حقيقته لما لهم من روحانية عميقة و شفافية كبيرة تجعلهم الأكثر حظا بما ملكوه من قدرة رؤية الجوانب المضيئة بالعالم أما الآخرين من الطغاة و المتكبرين و الأشرار قابعين للأبد في الجانب المظلم من العالم لأن نفوسهم عاجزة عن رؤية الحقائق الثابتة بالكون

رأيت ما يراهُ النائمون
كيف يُبتلعُ اليقين ؟
كيف متنا سنين خلت ؟
لماذا يحرسُون الغابات ؟
كيف يصنعون من أغصان أشجارها
صلبانا توابيتَا نبابيتا وخوازيق ؟


يعود المبدع يكرر و يؤكد لنا أنه لازالت الرؤى تتوالى عليه كما النائم الذي يحلم أحلاما عديدة.. و قد تكون مجرد أفكارا في عقله يشعر بها كرؤى تنتابه .. يتحدث و كأنه اكتشف أسرار العالم و أماط اللثام عن ألغازه العديدة
فعرف كيف تُُبتلع الحقائق .. و لا شىء يبتلع الحقيقة إلا دوامات الزيف حين تجبها و تحجبها عن الرؤية . يرى كيف مات الإنسان أدبيا حين سكت على موت الحقيقة و عن الهتاف بالحق في وجه الظلم لأجل الضلال و الغي فالإنسان الذي يسكت عن الحق إنسانا ميتا لا أمل فيه ؟
و يعود للتساؤل و الحيرة مرة أخرى و كأنه عاد لمحاولة البحث عن خفايا العالم و يتسائل كيف يمكن أن نكون نحن البشر حارسين على هذا العالم بكل ما فيه من توحش و عدم إنسانية و قسوة ثم نتعذب و نموت بأدواته أو نقتل أنفسنا بأنفسنا و بأدواتنا التي صنعناها لحراسة العالم و خوفا عليه !!

ليتني ما أنكرتُه
قبل صِيَاح الديك
سرت معه في الطريق إلى الجلجلة
جفَّفتُ عرقه مسحت دمعته


يعود المبدع ليلوم نفسه بقوة و يجلد ذاته بعنف.. لكن على ماذا يفعل ذلك و لم يكن حاضرا هذا الحدث المؤلم و لم يكن شريكا فيه ؟
هو يشعر في قرارة نفسه أنه مسؤول كإنسان عن كل خطايا الإنسان منذ بداية التاريخ حتى اللحظة فالسكوت في وجه الطغاة جريمة في كل زمان و مكان .. و يتمنى لو كان له دور إيجابي و لو ضعيف .. أي شىء يفعله بدل الصمت الذي يقتل الإنسانية ملايين المرات

نظرت إلى وجهي في المرآة
شاهدت يهوذا
مع أنني لم أخنه
لم أبعه مقابل الثلاثين من الفضة


ها هو مرة أخرى يعود للوم نفسه .. و يجلد ذاته .. فيرى نفسه في صورة يهوذا .. هذا الذي خان المسيح مقابل ثلاثين من الفضة .. هو يتكلم عن نفسه كإنسان رأى و سمع و صمت .. و كان عليه أن لا يسكت .. فالسكوت أيضا خيانة في حق كل من حضروا المشهد .. يجلد ذاته كإنسان .. أو يجلد الإنسانية ممثلة في ذاته

هيّا أرقصي سالومي
لم يعد هناك وقتً للسجودِ
للصلاة
بيلاطس غسل يديه بالماء
وقيافا هتف :
دمه علينا وعلى أبنائنا


ارقصي سالومي كما تشائين على جثث ضحايا المبادىء فالحقيقة ماتت بموت رموزها .. و صرنا نعيش وهما أسمه عالم .. ارقصي .. طالما أن الظلم هو من تسيّد المشهد .. ارقصي .. لم يعد هناك وقت حتى للصلاة .. فكل شىء انتهى مع ملك الملوك و لا جدوى من إدعاء الفضيلة بعد أن غسل بيلاطس يديه من دم المسيح .. بعد أن حكم بعذابه و صلبه و هو يعرف أنه يرتكب أثما شنيعا في حق ملك طاهر .. غسل يديه و لم يعد يشعر بالندم على ما ارتكبه في حق الإنسانية
أرقصي سالومي .. لا شىء يستحق العناء بعد أن أعلنها قيافا بضرورة قتله حفاظا على الأمة زورا و بهتانا
خوفا على مراكزهم من سطوته و سلطانه

إذ قال (أنه خيرٌ لنا أن يموت إنسانٌ واحدٌ عن الشعب ولا تهلك الأمة كلها! ( يو 11: 49 ، 50) )
هكذا هو العالم .. عالم تطغى فيه المصلحة و السلطة في سبيل قتل الشرف و المبادىء و القيم

شفيفٌ عذابه
مهيبٌ جسده المعلقُ فوق الصليب
لو يدرون أنه قد هزم الموتَ بوفاته
لما صلبوه ولا قتلوه

يعود المبدع للمسيح يصف عذابه بأنه ليس جميلا فقط بل و شفيفا و خاصا و ذا روحانية عالية .. عذاب له مذاق النقاء و روعة التضحية و شفافية المحبة الصادقة
هذا المهيب المعلق جسده فوق الصليب
لم يهزمه الموت لأن دينه و دعوته و تضحيته باقية ليوم الدين .. هو باق بقاء العالم .. بقاء المبادىء السامية .. و العقيدة الإيمانية الراسخة في قلوب أتباعه من المؤمنين
و لو كان من صلبوه يعرفون هذه الحقيقة و أن التاريخ سيخلده كرمز للتضحية و الإيمان و الفضيلة
لما أقدموا على هذه الجريمة النكراء
التي ألقت بهم في زوايا التاريخ المعتمة .. ليتلقوا هم اللعنات السوداء على ما اقترفت يداهم بحق ملك الملوك

شكرا لك دكتور فوزي
قصيد زاخر بالمعاناة النفسية .. معاناة إنسان مما يحدث في العالم من ظلم و توحش .. مبني على حدث تاريخي وصمة على جبين الإنسانية التي خانت الأمانة .. فموت الفضيلة و الطهر و الشرف و القيم موت للإنسان و موت للعالم بأسره 


*****************************************************************


قراءة لـ قصيدة للجدار أيضا أغنية
للشاعر
محمد مثقال الخضور

بداية أقدم هذه القراءة لإحدى قصائد الشاعر الكبير محمد مثقال الخضور.. فقصائده دائما ما تستنفر عقلي لما فيها من عمق فلسفي و نفسي كبير 
فاسمحوا لي أن اغوص في اعماق هذا الشاعر و أن أحاول فهم نصه الغني بالمعاني القوية و الفلسفة العميقة




للجدارِ أَيضًا . . أُغنية

وَحدَهُ الجدارُ . . يَعرفنا 
لا تَخدعُهُ أَطوالُنا . . وأَقوالُنا 
يَذكرُ كيفَ كانتْ . . !

تُحِبُّه السقوفُ . . والأَسرار 
يَنامُ بيننا وبين الكونِ . .
يُشبهُ أُمي . . ! 
فَجانبٌ منهُ لنا ، والآخرُ للصقيع

وَيُشبِهُ الوطن . . !
فَمَرَّةً ، تُدْمِعُهُ أَنفاسُنا 
وَمَرَّةً ، يكونُ عُنوانًا . . فقط !

قَبلَ بُلوغِ سِنِّ الهزيمةِ 
كانَ ثوبُ الأُمِّ ضرورةً للوقوفِ 
والجِدارُ ضَرورة للمشي

بَعدَ انضباطِنا بِقواعِدِ الإِعرابِ ، قُلنا :
الجِدارُ عائِقٌ للمشي
لا داعي للوقوف . . !

الحلمُ اختراقٌ للمحيط 
الريحُ بُطولةٌ تتنازلُ عن أَوسمتها . . للأَشرعة
الحلمُ والريحُ يَستجديان الجدار !

الصمتُ . . حقيقةٌ تَسخَرُ مِنَ النفي والإِثبات
لحنٌ لمْ تَعثرْ عليْهِ المعاجِمُ 
آهةُ الأَرضِ حين تَجْرحُها البذورُ
وحينَ تَنكَأُ الثمارُ ذاتَ الجروح 
الصمتُ . . جدارٌ مُعتقلٌ بين صخرةٍ وسقف

الأَبوابُ جدرانٌ متحركة
الأَسرارُ جدرانُ النفْسِ
البحارُ جدرانُ البلاد

يَقُولُ - في عِتابِهِ - الجدارُ : 
المساميرُ تُوجِعُني ! 
المرايا تَكاثُرٌ غيرُ شرعيٍّ للأَشياء
اللوحاتُ كائناتٌ طُفيليَّةٌ كسيحة
النوافذُ طَعناتٌ من الخلف
الستائرُ وَهْمٌ يُثيرُ سُخريةَ الشمسِ وَفُضولَ العابرين 
الأَنوارُ تُشاغِبُ التعاقُبَ
أَسلاكُها تَنخَرُ هَيكلي العظميَّ

كُلَّما ضاقَت الأَرضُ . . يَتَّسعُ الجدار
يُعيدُ إِلينا ما أَذبْنا عليْهِ مِنْ أَقلامِ الرصاص . .
وما اختلسْنا خَلفَهُ مِن القُبلات 
يُعيدُ النظراتِ التي تَجاوزتْهُ يومًا . . 
وعادتْ إِليهِ خائِبةً باكية
يُعيدُ الأَحلامَ التي تسلَّلتْ عَبرَ شُقوقِهِ 
وخانَتْها . . الوعود
يَقبلُ اعتذارَ المساميرِ
يَتركُ قُربَ نافذتِهِ رُقعةً لِظهورِنا وَرؤوسِنا 
تكفي . . 
لِمُمارسةِ التأَمُّلِ . . والذهولِ 
وَتَفْريغِ التَعَبْ . . !


للجدارِ أَيضًا . . أُغنية !

الجدار .. هذا الجماد الأصم الذي يحتضن اسرارنا ,, يعرف ما يدور داخل حجراتنا المغلقة ,, يفاجأنا الشاعر بأنه أيضا له ( أغنيه ) فهل هذا ممكن ؟ 
أراد المبدع أن يكشف لنا خبايا هذا الأصم الذي لا نعيره أي اهتمام ,, رغم أنه يحاصرنا دائما ,, و نراه دائما لكنه أراد أن يكشف خباياه لنراه بشكل أوضح و كأنه هو يقول لنا انتبهو ,, فالجدار ايضا مثلنا ,, له اغنية
لماذا لم يقل له صوت أو له احساس أو له حكاية ,, لماذا اختار كلمة ( اغنية ) بالذات , اظن السبب هو رغبة الشاعر ان يجمع بين الصوت و الإحساس و الحكاية و هم الأكثر تأثيرا في النفس .. فما الأغنية إلا مزيج من الصوت و الإحساس و الحكاية
و اراه موفقا جدا في اختيار العنوان الذي شد انتباهنا كثيرا و كلمة ( ايضا ) اشارة إلى انه يشبهنا في هذا الأمور الثلاث ,, فكل منا له اغنيته


وَحدَهُ الجدارُ . . يَعرفنا 
لا تَخدعُهُ أَطوالُنا . . وأَقوالُنا 
يَذكرُ كيفَ كانتْ . . !

نعم بالطبع , الجدار أكثر من يعرفنا ,, أكثر من يحوي خبايانا .. دون أن ندري أنه يرى و يحفظ و يسجل كل ما يصدر عنا من أقوال و أفعال
لكن لا افهم معنى لا تخدعه ( أطوالنا ) ؟؟ 
هل يقصد بأطوالنا احجامنا ,, الكبير و الصغير .. 
أم كان يقصد ( أطوارنا ) و هي أطوار حياتنا من الصغر حتى الكبر ؟
و يقول لا تخدعه أقوالنا لأنه عرفنا عن قرب و عرف أساليبنا دون أن ندري ,, فمهما قلنا و مهما كذبنا أو حاولنا تجميل أنفسنا لن ينخدع ,, فهو يعرف الحقيقة كاملة عنا

تحِبُّه السقوفُ . . والأَسرار 
يَنامُ بيننا وبين الكونِ . .
يُشبهُ أُمي . . ! 
فَجانبٌ منهُ لنا ، والآخرُ للصقيع

تحبه السقوف هذا طبيعي لأنها مسنودة عليه و بلا الجدار فلا وجود لها ,, فهو كالعصاة بالنسبة للأعرج .. بل أكثر ,, فالسقوف تبنى على الجدران ,, فمعنى عدم وجوده فنائها ,, 
كما أن الأسرار تحبه ,, و هذا ايضا طبيعي لأنها تختبىء داخله ,, لا أحد يطلّع عليها .. طالما هى في حماية هذا الأصم القوي 
و قد وفق الشاعركثيرا في هذين البيتين
ينام بيننا و بين الكون .. فهو الذي يفصلنا عن الخارج بكل ما فيه و ما يحويه و لكن لماذا جعل الجدار (نائما ) ؟؟ لماذا لم يقل يوجد بيننا و بين الكون أو منتصبا بيننا و بين الكون .. فقد اعتدنا أن يكون الجدار منتصبا .. فلم اختاره نائما ؟ كما أن النائم يكون في موتة صغرى فلا يشعر بما يدور حوله و هذا عكس ما أراد الشاعر أن ينبهنا إليه في القصيدة و هو أن الجدار يرقبنا و يسجل سكناتنا و حركاتنا طول الوقت بل و يشعر و يتألم و يشكو !!!
يقول ( يشبه أمي جانب منه لنا و جانب للصقيع )
هنا يصدمنا و يفاجأنا بهذا التعبير ,, كيف للجدار الأصم البارد ان يشبه الأم الدافئة الحنون .. أظنه أراد أن يقول أن الأم في جانب منها الحماية و القوة و حفظ الأسرار ,, و الجانب الآخر التصدي لصقيع الحياة بدلا منا .. أى أن الأم درع حماية ووقاية .. تدفئنا بحضنها المنيع الدافىء و هى توجه ظهرها للبرد و الألم و الصقيع لحمايتنا و الزود عنا 
التشبيه يعجبني لأنه بليغ للغاية ..

وَيُشبِهُ الوطن . . !
فَمَرَّةً ، تُدْمِعُهُ أَنفاسُنا 
وَمَرَّةً ، يكونُ عُنوانًا . . فقط

نعود لتشبيه الشاعر الجدار بالوطن ( مرة تدمعه أنفاسنا ) كيف يمكن أن يدمع الوطن لأنفاسنا ؟ هل يقصد لحظة احتضارنا ؟ هل يقصد انفاسنا اللاهثة لتحقيق طموحاتنا ؟ 
و ( مرة يكون عنوانا فقط ) .. اعتقد أنه أراد أنه يقول أننا احيانا ننتمى لوطن عنوان فقط .. نشعر به بغربة .. لا نستشعر أنه وطننا .. مجرد عنوان في جواز سفرنا .. بطاقتنا .. دون أن نشعر أنه وطننا الحقيقي

قَبلَ بُلوغِ سِنِّ الهزيمةِ 
كانَ ثوبُ الأُمِّ ضرورةً للوقوفِ 
والجِدارُ ضَرورة للمشي

( قبل بلوغ سن الهزيمة ) أظنه يقصد بسن الهزيمة سن ما بعد الطفولة البريئة و هذا واضح من قوله ( كان ثوب الأم ضرورة للوقوف و الجدار ضرورة للمشي ) حيث كان الطفل يحتاج لثوب أمه للوقوف و الجدار للمشى .. لكن لماذا جعل هذه المرحلة القصيرة جدا في حياة الانسان و التي لا تتعدى سنة هى مرحلة انتصار ,و ما بعدها مرحلة هزيمة ؟ فإن كان يريد أن يقول انها مرحلة البراءة ,, اظن أن هذه المرحلة ممتدة إلى عدة سنوات لاحقة على استطاعة الطفل المشي و الحركة 
فهل أراد القول أن مرحلة الانتصار هي مرحلة الصمت ,, قبل أن يبدأ الانسان بالكلام ؟؟ أظن هذا هو مقصده

الحلمُ اختراقٌ للمحيط 
الريحُ بُطولةٌ تتنازلُ عن أَوسمتها . . للأَشرعة
الحلمُ والريحُ يَستجديان الجدار

( الحلم اختراق للمحيط ) تعبير جميل ,, فأحلامنا تخترق الوديان و البحار و المحيطات الواسعة بحرية .. و كأن لفظ المحيط هنا بالذات تعبير عن الاتساع الكبير جداا 
الريح بطولة تتنازل عن أوسمتها للأشرعة ) 
كيف تكون بطولة الريح ؟؟ ربما لأنها قوية و احيانا تحمل الخير و الرخاء من مكان لآخر ,, لكنها في البحر قد تكون دليل مخاطر شديدة عندما تكون عنيفة ,, أو قد ترشد السفن لاتجاه معين عندما تكون هادئة ,, فطالما ذكر الشاعر بطولة بالتأكيد يقصد تلك الريح الطيبة التي توجه الأشرعة للأماكن خاصة و أنه أعقب ذلك بحصول الأشرعة على أوسمة لا تستحقها .. فالريح هي التي أرشدتها و هي التي تنازلت لها عنها طواعية و هي في طريقها المرسوم في الفضاء الواسع .. 
الحلم و الريح يستجديان الجدار )
لم الحلم و الرياح يستجديان الجدار ؟؟ هل تعبا من اختراق الفضاء الكوني الشاسع .. من السفر عبر الأماكن و المحيطات و أرادا أن يستريحا ,, هو الجدار وحده من يستطيع أن يفعل ذلك مع الريح .. لكن هل يوجد جدار يمكنه أن يوقف حلم ؟؟!!!

الصمتُ . . حقيقةٌ تَسخَرُ مِنَ النفي والإِثبات
لحنٌ لمْ تَعثرْ عليْهِ المعاجِمُ 
آهةُ الأَرضِ حين تَجْرحُها البذورُ
وحينَ تَنكَأُ الثمارُ ذاتَ الجروح 
الصمتُ . . جدارٌ مُعتقلٌ بين صخرةٍ وسقف

(الصمتُ . . حقيقةٌ تَسخَرُ مِنَ النفي والإِثبات)
جميل هذا التعبير ,, نعم الصمت حقيقة و لا نستطيع ان نتجاهل وجوده .. لكن في نفس الوقت هو ليس دليل نفي و لا دليل أثبات ,, لهذا ظل في المنطقة الوسطى و هي الحيرة .. لا أحد يعلم سره
(لحنٌ لمْ تَعثرْ عليْهِ المعاجِمُ)
هذا ايضا تعبير يعجبني جدا .. فللصمت لغة غير معروفة و غير محسوسة .. لحن بلا صوت ,, لهذا لا يوجد معجم يستطيع أن يستخرج لنا ما في الصمت من معان و ألغاز 
آهةُ الأَرضِ حين تَجْرحُها البذور )
بعد أن أقر الشاعر بأن الصمت حقيقة و لن نعرف معناه عاد يشبهه بآهة الأرض عند غرس البذور فيها فجرحتها
الأهة صوت منخفض مؤلم .. فلماذا يعود ليشير أن للصمت صوت ؟؟ فهل لا يقصد المعني الظاهر و يقصد المعني النفسي ؟ أي أن الصمت أحيانا يكون مؤلم لكنه هذا الألم المكتوم الذي يشبه ألم الأرض الصامتة على جرح البذور لها دون أن يعلم أحد أنها تتألم 
(وحينَ تَنكَأُ الثمارُ ذاتَ الجروح)
يعود ليؤكد الجملة السابقة و لكن بتطبيقها على الثمار التي يصيبها نفس الألم ,, فهي تتألم ذلك الألم المكتوم دون أن يشعر بها أحد عندما يتم جرحها 
الصمتُ . . جدارٌ مُعتقلٌ بين صخرةٍ وسقف ) 
بعد كل هذه التشبيهات البليغة للصمت و آلامه .. يضعنا الكاتب أمام الحقيقة التي أراد أن يصلنا لها من البداية و لكن بعد أن جعلنا ندرك بحواسنا و مشاعرنا كيف يتألم الصمت 
ليواجهنا بأن هذا الصمت الذي تحدث عنه موجود و محاصر بين الجدران و الصخر .. لنعود نفكر من جديد في هذا الجدار الصامت الذي ينجرح و يتأوه و يتألم دون أن ندري أو نعرف

الأَبوابُ جدرانٌ متحركة
الأَسرارُ جدرانُ النفْسِ
البحارُ جدرانُ البلاد

الأَبوابُ جدرانٌ متحركة )
يعود الشاعر للجدار و ينبهنا إلى أنه موجود و حاضر حولنا بقوة و في كل مكان .. فالأبواب جدران تتحرك في بيوتنا 
كذلك أسرارنا الخاصة هي جدران أنفسنا التي تحميها داخلها فلا يطّلع عليها أحد
كما البحار التي تحيط البلاد من كل اتجاه هي أيضا جدران .. فهي تحمي و تحفظ أسرار هذه البلاد .. إذن هي ايضا لها وظيفة الجدار الذي يحاصرنا من كل اتجاه
يَقُولُ - في عِتابِهِ - الجدارُ : 
المساميرُ تُوجِعُني ! 
المرايا تَكاثُرٌ غيرُ شرعيٍّ للأَشياء
اللوحاتُ كائناتٌ طُفيليَّةٌ كسيحة
النوافذُ طَعناتٌ من الخلف
الستائرُ وَهْمٌ يُثيرُ سُخريةَ الشمسِ وَفُضولَ العابرين 
الأَنوارُ تُشاغِبُ التعاقُبَ
أَسلاكُها تَنخَرُ هَيكلي العظميَّ

بعد أن أكد الشاعر على أن الجدار صامت طول الوقت ,, يحفظ كل اسرارنا دون أن يتكلم أو يبوح بأي ألم يعتريه .. رغم ما يؤديه من وظيفة كبيرة في حياتنا ,, فهو الحافظ للأسرار و المتكىء للسقوف التي تغطينا .. 
يعود فيتخيله لو أنه تكلم ماذا قد يقول و ما هى شكواه

يَقُولُ - في عِتابِهِ - الجدارُ : 
المساميرُ تُوجِعُني ! 
طبعا سيكون أول شكوى للجدار هى الشكوى الحسية ,, فماذا قد يؤلم الجماد غير خدوش الآخرين التي تجرحها و تشوه شكلها 
فدق المسامير به مؤلم .. و جارح له
المرايا تَكاثُرٌ غيرُ شرعيٍّ للأَشياء
كأنه أراد أن يقول .. لماذا نكثر من المرايا كي نرى أنفسنا دون أن ننتبه أنها تخفى جذءا من الجدار بغير حق و بصورة فيها اعتداء على وجوده و على الحيز الذي يشغله بحياتنا 
لهذا فوجودها بكثرة ( آثم ) و هذا ما يقصده من قوله ( غير شرعي ) فكل ما هو غير شرعي غير مقبول و به أثم و ذنب كبير 
اللوحاتُ كائناتٌ طُفيليَّةٌ كسيحة
حتى هذه اللوحات التي نزين بها جدراننا هى بالنسبه للجدار شيئا آخر ,, طفيلي .. لا لزوم له ,, هي ايضا تخفي جانبا من الجدار بغير حق و هو لا يستسيغ وجودها عليه ,, فيراها طفيلية كسيحة ,, لا عمل لها سوى تشويه هيئته و أخفاء جانبا منه 
النوافذُ طَعناتٌ من الخلف
يكمل الجدار عتابه .. بضيقه من النوافذ هي الأخرى و يصفها بأنها طعنات فيه .. لكن لم أفهم لم يصورها بطعنات خلفية .. هل يريد أن يصفها بالخسة و الغدر ؟؟ لهذه الدرجة الجدار يقبح الأشياء و لا يريدها ملاصقة له أو عليه ؟ 
حتى لو كانت متنفسا له للعالم الخارجى كالنوافذ ؟
الستائرُ وَهْمٌ يُثيرُ سُخريةَ الشمسِ وَفُضولَ العابرين 
يكمل الجدار سخريته و ضيقه بالأشياء التي تلتصق به أو تخدشه أو حتى تلقى بظلالها عليه كالستائر فيصفها بأنها شىء وهمي .. فلا هي تمنع الرؤية و لا تمنع الشمس .. بل أن الشمس تسخر منها لأنها رغم وجودها تستطيع اقتحامها و دخول المكان .. كذلك هي تثير فضول العابرين .. لأنها توهمهم بأنها تستطيع أن تكشف ما بداخل المكان ,, عكس الجدار الذي يمنع الفضول ,, فهم يعرفون مقدما أنه لا يكشف الأسرار أبدا

الأَنوارُ تُشاغِبُ التعاقُبَ
أَسلاكُها تَنخَرُ هَيكلي العظميّ

يعود الجدار ليشتكى من الأنوار هي الآخرى .. و لكني لم أفهم ما معنى أن الأنوار تشاغب التعاقب ؟؟ هل يقصد تعاقب الظلام و النور أم الليل و النهار ؟ 
يصفها الجدار بأنها كالأسلاك تنخر في جسده
و لكن ,, لم يكره الجدار النور .. هل لأنه يحب التخفي و الهدوء و الظلام ,, يرى نفسه حافظا للأسرار و الأسرار يلزمها العتمة و النور يكشفها ؟
ثم لماذا شبه الجدار بالهيكل العظمي ؟؟ فالهيكل العظمي نعرف أنه بلا روح و لا حياة .. رغم أن الكاتب أرادنا أن نشعر بالجدار و كأن له روح و احساس .. يتكلم و يشكو و يحزن .. و هذه ليست صفات الهيكل العظمي ؟؟ و قد يكون للشاعر رؤية مغايرة هنا .. فالشاعر أكثر من يعرف المقصود بنصه

كُلَّما ضاقَت الأَرضُ . . يَتَّسعُ الجدار

أظن الشاعر قصد أنه كلما ضاقت الأرض علينا بكل أحلامنا و آمالنا و ذقنا طعم الخيبة و الوجع ,, انزوينا إلى جدراننا نتشبث بها فتتسع لنا و لهمومنا و أحزاننا دون أن تضيق بنا كما فعلت الأرض
أراه تعبير رائع و بليغ جدا

يُعيدُ إِلينا ما أَذبْنا عليْهِ مِنْ أَقلامِ الرصاص . .
وما اختلسْنا خَلفَهُ مِن القُبلات

عندها يعيد الينا كل ذكرياتنا التي حفرناها عليه .. و كل ما فعلناه خلسة خلف جدرانه .. و ظل حافظا للسر كاتما له
يعيدُ النظراتِ التي تَجاوزتْهُ يومًا . . 
وعادتْ إِليهِ خائِبةً باكية
يعيدنا إلى لحظاتنا التي خلونا بها اليه في لحظة ضعف أو حزن .. فلم نفعل شىء غير النظر اليه و اختراقه ..
و لكن كيف تعود النظرات إليه خائبة باكية ؟؟ . هل يقصد أنها بعد أن تجاوزته تماما و ابتعدت .. عادت مرة ثانية إليه في خيبة و بكاء .. هل الخيبة لأنها تجاوزته و ابتعدت عنه و تشبثت بغيره فوصفها بأنها خائبة و كان عليها أن لا تتجاوزه ؟
و كونها عادت باكية لأنها ربما عادت إليه نادمة لهذا التجاوز الذي حدث منها فأصابها ضرر و ألم 
هل الجدار مغرور لهذه الدرجة أم أنه يشفق على الانسان عندما يجعل من غيره حافظا لأسراره متسعا لأحزانه فيعود إليه نادما باكيا ؟
فهو تارة يسمع أحلامنا يتسع أحزاننا و يعطف علينا .. و تارة يوبخنا بأننا إذ نبتعد عنه نعود إليه بندم و خيبة و بكاء ؟؟

يُعيدُ الأَحلامَ التي تسلَّلتْ عَبرَ شُقوقِهِ 
وخانَتْها . . الوعود
يَقبلُ اعتذارَ المساميرِ

.. يعود الجدار ليشفق علينا من جديد .. يذكرنا بأحلامنا التي لم يشهد تحققها..بسبب الوعود الخائنة ... و هزيمتنا أمامها .. فيعيد تذكيرنا بتلك الاحلام التي نسيناها .. فمجرد أنها تسللت عبر شقوقه .. إذن لم تعد من اسرارنا التي يحفظها عن ظهر قلب .. فيعيدها إلينا عسى أن نستطيع أن نحققها 
و يقرر أن يتسامح مع المسامير التي تخترقه و تجرحه و تشوه هيئته ,, لكن هل هذا معناه أن الجدار قرر أن يتصالح مع كل الأشياء التي جرحته يوما .. 
يتركُ قُربَ نافذتِهِ رُقعةً لِظهورِنا وَرؤوسِنا

حتى النافذة التي كان يشكو منها .. لم عاد ينسبها لنفسه و يقول أنها نافذته ؟ .. هل هذا نوع من التصالح أيضا مع الأشياء 
و كنت أتمنى لو أفهم ,, السبب الذي جعل الجدار بعد كل هذا الالم و الشكوى المريرة من الإنسان و الاشياء يعود ليتصالح معهما في سلام دائم و لذيذ ؟
تكفي . . 
لِمُمارسةِ التأَمُّلِ . . والذهولِ 
وَتَفْريغِ التَعَبْ . .
ثم .. هو يسمح لنا فقط برقعة صغيرة نسند عليها ظهورنا و روؤسنا أما للتأمل أو الذهول أو تفريغ التعب
واصفا أنها بقعة قرب نافذته .. حتى تتمكن روؤسنا من ممارسة التأمل و المشاهدة و الذهول 
لكن لماذا الجدار يترك لنا بقعة فقط رغم اتساعه الكبير كما ذكر الشاعر .. فهو موجود حولنا حتى في الابواب و المحيطات ؟؟

شكرا للشاعر الكبير
محمد مثقال الخضور

************************************************************************

قراءة في نص ( بين النار و الأبجدية )
للشاعرة مالكة حبرشيد

أنا القابعة
بين النار والابجدية
أغرق روحي
في جب أسئلة عطشى
لشجو مسافة
أضاعت غيث السحاب
عند معبر الخوف

أصغي إلى هدير
يرتدي لون البهاء
مواويل الجنون
أوزعني ....
بين رقص على زجاج مطحون
وإبحار في ذاكرة ليل
فقد بوصلة الزمن
فكيف يدخل عمرالزهر
يتوشحه الصدأ ؟

أزملني بلحن المساء
دندنات الوجع المعتق
تكبر آآآهتي
تصير بحجم الشموس الفاصلة
بين هنا ...وهناك

وحين يموت الغروب
اشعل فيك امتدادي
وما تلبسني من دفء
في مدن حلم
لا حدود لها
غير مقلتي
ونبض وفي ...
أقسم إلا أن يكون صراطا
للغات البحر
وأوجاع الحنين
وأن يدخل المدى
حاضنا انهياره
وشوقه الدفين

أراهن المرآة
حين تخذلني
أني مهما انشرخت
سأطلق مراكبي
نحو نهار لا يشيخ
مادام كلي جامحا
مزهرا كالودق
لن أحن الى صورتي
في المساء الماضي
ولا إلى الأمل المصلوب
بين أشجار الغضب
وصحاري الخوف الشاهقة
سأقتلع الموت الذي
اعشوشب في الزوايا
وأغسل قلبي
بشهقتين
رعدتين
ونجمتين في سماء الحلم
أدخلني بهاء الأنوثة المصادر

القراءة 


بين النار و الأبجدية
ثمة ارتباط ما .. علاقة فريدة جمعت بينهما ليكونا المدخل لنصها و الشعاع الذي سنتتبعه حتى نصل لروح القصيد و دلالته ..

تقول في مطلع قصيدتها

أنا القابعة
بين النار والابجدية
أغرق روحي
في جب أسئلة عطشى
لشجو مسافة
أضاعت غيث السحاب
عند معبر الخوف

الذات المبدعة تبدأ قصيدتها ( بالأنا ) و هي بهذا تريد أن تعكس لنا حالة خاصة قد تنفتح على العموم أو تظل سجينة ( الأنا )
_ أكثر ما يؤرق الذات هو أن تكون عالقة بين نار الأسئلة و عجز الأبجدية عن إيجاد الأجوبة .. أن تسقط في آتون الفكر دون أن تسعفها ذاكرتها الزاخرة بالمعرفة بثمة إجابات تريح عقلها الحائر الباحث عن الحقيقة في عالم غارق في الغموض
فالأسئلة هي الطريق للمعرفة .. الدرب الذي يصلنا بالحقائق
هي ذات الأسئلة منذ القدم .. منذ خُلق الإنسان على هذه الأرض .. تكرر نفسها في عقول البشر دون أن تجد بصيص ضوء
كيف يمكن أن يكون الخوف عائقا عن مواصلة طريقنا نحو ما نرغبه فيوقف هطول امنياتنا ( غيث السحاب ) .. نفسها الفلسفة التي تجعلنا نبحث عن تبرير لكل شىء معقول أو لا معقول

أصغي إلى هدير
يرتدي لون البهاء
مواويل الجنون
أوزعني ....
بين رقص على زجاج مطحون
وإبحار في ذاكرة ليل
فقد بوصلة الزمن
فكيف يدخل عمرالزهر
يتوشحه الصدأ ؟

تعود و تعكس الحالة التي تعيشها بين المحسوس و اللامحسوس و كأنها في منطقة انعدام وزن تحاول أن تفهم ما يعتريها من أفكار حارقة ,, أن تجد أجوبة لكل ما هو غير منطقي و غير معقول من خلال رحلة الأنا النفسية ( أصغي _ أوزعني ) في خضم التساؤلات
فلا تجد إلا سراب يحاصرها .. و جنون ينشدها .. و إبحار رغما عنها في ذاكرة مظلمة فاقدة الإحساس بالوقت و قيمته و لا تساعدها للوصول لمبتغاها ..
جاء السؤال في آخر المقطع كما و أنه يفتح لنا الباب لدهاليز الأسئلة التي تحيرها .. لنحاول مرة أخرى أن نتبع بوصلتها نحو شواطىء المعرفة و نعمل عقولنا معها في محيط من الأفكار و الرؤى ..


أزملني بلحن المساء
دندنات الوجع المعتق
تكبر آآآهتي
تصير بحجم الشموس الفاصلة
بين هنا ...وهناك


تعود الذات المبدعة إلى نفسها المعذبة .. تتدثر بالمساء بكل ما فيه من هدوء و صفاء و شجن ووحدة و كأنها تختبأ فيه ,, لينصهر مع أوجاعها المعتقة .. فتكتمل لوحة ( الألم الأكبر ) فتكبر أحزانها و يخيل إليها أنها كبرت كبر الشمس التي تضع الحد الفاصل بين العتمة و الصباح .. بين اليأس و الأمل .. بين الظلام و النور .. بين كل المتناقضات
مقطع به من الإحساس و التوهج ما نقلنا إلى مشهدية جعلتنا نعيشه و نتنفسه

وحين يموت الغروب
اشعل فيك امتدادي
وما تلبسني من دفء
في مدن حلم
لا حدود لها
غير مقلتي
ونبض وفي ...
أقسم إلا أن يكون صراطا
للغات البحر
وأوجاع الحنين
وأن يدخل المدى
حاضنا انهياره
وشوقه الدفين

عندما يموت الغروب أو عندما تنتهي الحياة و تخذلنا بضياعها من بين أيدينا
( أشعل فيك امتدادي ) سأعيدك للحياة .. من الذي ستعيده للحياة باشتعالها و دفئها بعد صقيع الموت ؟ ربما هو قلبها أو ربما حبيبها الذي تخشى فقدانه أو هو حلمها الذي انتهى .. ستستعيده من جديد في عالمها الشاسع الذي لا حدود له النابض بالحب و الوفاء

أراهن المرآة
حين تخذلني
أني مهما انشرخت
سأطلق مراكبي
نحو نهار لا يشيخ
مادام كلي جامحا
مزهرا كالودق

و كأنها تريد أن تؤكد لنا شيئا أرادته منذ البداية فجعلنا هذا التدرج ( بين الأسئلة و الحيرة و الرغبة و الإصرار و التحرر ) ندرك أن الذات المبدعة تعرف ما تريد و ما ترغب أن توصله إلينا ..
ها هي .. تقول لنفسها ( المرآة ) فالمرآة ما هي إلى انعكاس للنفس بكل ما فيها .. أنها ستنتصر على نفسها .. ستتحدى نفسها مهما كانت قوة الجرح و عمق الألم .. و أنها مُصرة أن تجعل الأمل وجهتها .. و ستعبر إليه ( نهار لا يشيخ ) ستعبر نحو الأمل الذي لا ينتهي أو يأفل و كأنها تؤكد لنفسها أولاً أنها عازمة أن تستعيد ذاتها من جديد و على المضي لوجهتها بكل عزم
فما دام ( كلى جامحا ) ممتلىء بالمثابرة و الإرادة و المغامرة .. ما دام مزهرا ( كالودق ) و الودق المزهر هو المطر الذي يحمل الخير و العطاء .. و لأنها تحمل منه الكثير لن تتخلى عن أحلامها و ما أرادته لنفسها


لن أحن الى صورتي
في المساء الماضي
ولا إلى الأمل المصلوب
بين أشجار الغضب
وصحاري الخوف الشاهقة

تبدأ هذا المقطع ( بالنفي ) المستقبلي .. نفي ماذا ؟
( لن أحن ) تقرر بهذا النفي المؤكد لما سوف تكون عليه مستقبلا .. أنها لن يأخذها الحنين إلى حيث كانت في الأمس القريب .. عندما كانت تعيش الألم و الحيرة و الخوف
و لن تنظر للآمال التي لم تتحقق ( مصلوبة ) لا جدوى منها لأنها أسيرة بين الغضب و الخوف
فتلك الآمال مصيرها الموت لا محالة
جذبتني هذه الصور ( أمل مصلوب بين أشجار الغضب و صحاري الخوف الشاهقة )
إذن هو أمل صعب كونه مسجونا بين دفتي الغضب و الخوف و هما أكثر ما يدمران حياة الفرد . . لكن الوعد كان أكيدا من الذات بانتصارها عليهما
و إن كنت استغربت أن تكون المقابلة بين الصحاري و الأشجار في اعتقال الأمل .. فالصحاري ممدودة متسعة بينما الأشجار عالية مرتفعة .. فكيف يمكن أن يعتقل الأمل أو يصلب بينهما ؟ لهذا كنت سأستسيغ لفظ ( جدران ) ليكون مقابلا في الإرتفاع و الإنتصاب مع الشجر و يتحقق الصلب و إعتقال الأمل بينهما
لكن هكذا قصيد النثر الصور قد تنجرف إلى ما هو أبعد من تخيلاتنا .. و أبعد من تصوراتنا العادية


سأقتلع الموت الذي
اعشوشب في الزوايا
وأغسل قلبي
بشهقتين
رعدتين
ونجمتين في سماء الحلم
أدخلني بهاء الأنوثة المصادر

جاء هذا المقطع الأخير كانفراجة أخيرة بعد رحلة معاناة نفسية ( بداية من الأسئلة حتى التحرر النهائي ) التحرر من كل ما يُقيّد انطلاق النفس نحو آفاق أوسع من الحرية بعيدا عن أسوار الخوف و الألم و الغضب
و ستتخذ إجراءات تنفيذية نحو المستقبل المضيء
إذ أنها ( ستقتلع الموت ) صورة تعبر عن إرادة صلبة تستطيع أن تصل إلى ما تريد ... جعلتنا نتصور الموت كائن له وجود محسوس ..
لن تكتفي بتغيير واقعها الميت الجامد الذي لا حراك فيه . . بل أيضا تقطع وعدا بأنها ستتغير من داخلها .. ستمنح قلبها الحياة و القوة و الحلم المضىء لتكون إنسانة أخرى تستحق أن تعيش حياتها كأنثى كما أرادت أن تكون

الشاعرة أخذتنا في رحلة انسيابية داخل ( الأنا ) المعذبة لهذه المرأة المعتقلة داخل نفسها الرافضة للواقع المرير من خلال نظرة فلسفية لمعاناة امرأة .. فلو خرجت ( الأنا ) من الخصوص إلى العموم لوجدناها اخترقت عالم المرأة العربية و معاناتها في مجتمع يصادر أنوثتها و حقها في الحياة كما تريد .. أما بفعل التقاليد أو القيود الإجتماعية المختلفة .
و قد عبرت عن هذه الأنا بكثير من الكلمات التي تناثرت في القصيد (( أنا _ أصغي _أغرق _ أوزعني _ أزملني _ أراهن _ أطلق _ أقتلع _ أغسل _ أدخلني )
و جاءت الصور مكثفة بها إيحاءات مفتوحة على الكثير من التأويلات على هذا القصيد الزاخر بالإنفعالات النفسية الشديدة
أما القفلة فشعرت أنها جاءت نتيجة طبيعية لكل هذا الكبت الذي يعقبه الإنفجار فيطيح بكل ما هو بالي من معتقدات و قيود أتى عليها الزمن و تبدلت مع الوقت و أخذت المرأة الكثير من الحقوق لتكون أنثى كاملة غير مصادرة الأنوثة أو المشاعر أو الحقوق

شكرا لشاعرتنا الجميلة
مالكة حبرشيد
تمنيت أن تكون دراستي أكثر فنية
لكن هكذا رأيتك
بين النار و الأبجدية 


العنوان

شحاد

النص

لله يا محسنين ...... حسنة قليلة تمنع بلاوي كثيرة
أعطاهُ محسن كتاباً و نصف دينار.
بكل ذهول و أسى و ندم قلب الكتاب بين يديه .
هذا الذي باع ما فوقه و تحته لينشرهُ ... ديوانه الذي سماه سأعيش عزيزاً

قصة ساخرة قصيرة جدا 
شحاد
\\
هكذا كان العنوان الذي حمل في طياته مهانة لشخص ما أثارت في النفس ثقلا و ضيقا و تساؤلا لا سبيل لإستجلاء أمره إلا بقراءة النص الذي حملنا إلى قفزات مشهدية متتابعة بدأت من لحظة النهاية ثم ارتدت إلى الماضي ووقفت عند خاتمة شبيهة باسدال الستارعلى وجه الكاتب و هو يبتسم في سخرية لاذعة ترتجف لها نفوس المشاهدين 
\\
المشهد الأول : شخص يتسول في الطريق ... و لا نعلم بعد عن أمره شيئا
المشهد الثاني :  يقترب منه أحد المحسنين فيعطيه كتابا و نصف دينار .. أما النصف دينار فهو هذا المبلغ الضئيل الذي يستطيع أن يشتري به أقل ما يمكن أن يقتات به شيئا ليأكله . و هو دلالة على الحالة التعسة التي يعيشها هذا المتسول 
و يشد انتباهنا إلى أن المحسن لم يكتف بإعطاء المتسول نصف دينار بل أعطاه كتابا و هو دليل على أنه كتابا ليس له أهمية أو أن المحسن لا يراه ذات قيمة و من ثم استغنى عنه بكل سهولة 
أو أن الكاتب أقحمه في النص ليصل بنا إلى الهدف الذي يريده من القصة فليس من العادة أن يكون الكتاب أداة إحسان و برّ يدفعها المحسن للمتسول .. فصاحب المعدة الخاوية ليس لديه رفاهية القراءة 
المشهد الثاني :  يتفرّس المتسوّل في الكتاب ليقع في صدمة تهز كيانه و تجعله يشعر بندم و غصة في قلبه.. فهذا نفسه الكتاب الذي وضعه على قائمة المتسولين بعد أن أنفق عليه كل ما يملك في سبيل أن يخرج للنور و هو يظن أنه كتابا ذا قيمة و سيرتفع بي إلى مصاف الكتّاب الذين خلدتهم كتبهم و جعلتهم ذائعي الصيت و الشهرة 
المشهد الرابع : ابتسامة نلمحها على وجه المتسول تعبر عن  المفارقة الساخرة المبكية حتى الضحك أو المضحكة حد البكاء حين يعيد قراءة أسم الكتاب ( سأعيش عزيزا ) و قد ظن الكاتب أن كتابه هذا حين ينشر و يخرج إلى النور سيكون سببا في عزته و فخره ؟
و قد أشار في سياق النص إلى أن الكتاب ما هو إلا ديوان
إذن نحن أمام شاعر سقط بحلمه إلى قاع لم يكن يتخيل أنه سيقع فيه
\\
أيا ما كان الأمر فالقصة القصيرة جدا و الساخرة حد الوجع تعبر عن قضية كبرى تمثل المعاناة التي يعيشها الكاتب عموما و الذي يكون كل حلمه أن يطبع كتابا للنشر و ينفق في سبيل ذلك كل مدخراته التي كان يحرص عليها في سبيل أن يخرج حلمه للنور فإذا به يصطدم بالواقع المرير و بصخرة الحقيقة المرّة التي تكشف له أن بعض الأفكار ليس لها قيمة أو أنه عاش خدعة كبرى من خلال هذا الحلم الكبير الذي احتضنه في ذاكرته و قلبه و روحه لتفترسه الحقيقة بكل قسوة و توقع به في شرك الندم و الفقر
و قد يكون التسوّل إشارة رمزية إلى مقدار ما عاناه الكاتب في سبيل نشر كتابه ليقع في مصيدة حلم لا يعيش إلا داخله .. فهو أما شخص مفلس فكريا و أدبيا و بضاعته مزجاة أو أن العالم هو المفلس عن استيعاب ما في كتابه من قيمة أدبية و فكرية

النص حمل رؤية فجرها الكاتب من خلال فكرة درامية عالجها من خلال قصته التي حملت مشاهد متعددة في لقطات قصيرة جدا و قد تجسد أمامنا البطل أو الشحاد و هو ينتقل من حال إلى حال دون إغفال العامل النفسي له من لحظات الألم للندم للحزن للدهشة للسخرية في قفلة محكمة تجلت فيها السخرية بكل مرارتها 

شكرا للمبدع محمد مزكتلي
كل التقدير و الاحترام له

هناك تعليق واحد:

  1. قرأت هذه النصوص وهذه القراءات وأعدت في الحقيقة القراءة لشدة انبهاري بتحليلك الدقيق والعميق --
    شكرا من القلب العزيزة الغالية منار يوسف
    بورك قلمك وفكرك

    ردحذف